المؤلفة: شفيقة وعيل
العدد: ورقة عمل رقم 8
التاريخ: كانون الثاني/يناير 2020
الملخص
إنّ جدليّة الحكم والدّين وطبقيّة التركيبة الفكريّة والحُكميّة للمجتمع تفرض أسئلةً جدّيّةً حول حقيقة الهامش الذي يمثّله "الجمهور" la foule.وفي هذا الصّدد، تسعى هذه الورقة إلى استقصاء الملامح الدّلاليّة والمفهوميّة التي صنعت مفهوم "الجمهور" بالنّظر إلى مركزيّة السّلطتَين السّياسيّة والدّينيّة في التّراث الإسلاميّ.
ولأنّ هذه الورقة هي جزءٌ تأسيسيٌّ لمشروع الزّمالة الذي يبحث في السّلطة التي منحها التراث لرجل الشّارعمُمَثَّلًا في مفهوم "الجمهور"، فمن الطبيعيّ التأسيس المفاهيميّ والدّلاليّ في البداية لهذا المفهوم. لقد استُعمِل "الجمهور" رديفًا مفاهيميًّا لما يسمّيه التّراث "العامّة" أو "العوامّ" ويُراد به اجتماعيًّا المكوّنُ المقابل معرفيًّا وسلطويًّا للنّخبة الفاعلة في صنع القرار بمختلف أشكالها.
وانطلق البحث في تحديد مفهوم "الجمهور" من التقاط دورانه بين مكوّنات الحقل الدلاليّ لهذه المفردة في التّراث الإسلاميّ. ومن الأسئلة الأساسيّة التي نتجت عن هذا الدّوران:
1- هل "الجمهور" هو تجمّع بشريّ عشوائيّ يتّصف بالكمّيّة المجتمعيّة ويُوصَم بالدّونيّة، بالمعنى الشّائع في مصادر التراث؟
2- أم هل هو فئة طبقيّة تُعتَبَرُ أغلبيّةً سلطويّةً دينيًّا ومجتمعيًّا، بالمعنى الذي يطرحه الفقهاء؟
3- وكيف انتقل من المعنيَين السّابقَين إلى كونه مقابلًا مفاهيميًّا لـ"الخاصّة"؟
4- وهل له حضورٌ في بناء رؤية سياسيّة إسلاميّة عبر مفاهيم أخرى كمفهوم "الأمّة" و"الجماعة"؟
في استعراضها لهذه الأسئلة كان على الورقة أن تلاحظ ‒ بدايةً ‒ التوافق بين التصوّر اللّغويّ والتّداوليّ للجمهور والتصوّر الدّلاليّ بمعناه المعاصر والذي يُراد منه مجرّد تجمّعٍ بشريّ يفقد أهليّته العقليّة الفرديّة عن طريق الاستجابة لوعي عامٍّ بحالة التكتّل التي تسيّره. ولأنّ البدايات التراثيّة كانت تستعمل لفظة الجمهور بمعنى الكثرة (لغويًّا) فلم تكن تقصد به لا المعنى الطّبقيّ الاجتماعيّ الهامشيّ ولا معنى الغلبة الدّينيّة. لكنّ الاستعمال تغيَّر شيئًا فشيئًا عندما بدأ ربط المفهوم بمفردات أخرى نحو "العوامّ" و"العامّة" و"السّواد الأعظم". ولا يعني هذا الانزياحُ إلغاءَ أحد المفاهيم على حساب الأخرى ولكنّه، بلا شكّ، يُعين على فهم سيادة مفهوم ما دون غيره في مرحلة تاريخيّة مشحونة بنظرة الازدراء تجاه "الجمهور". فقد ارتقتْ هذه النّظرة من الكمّيّة المفضولة إلى أن منحتْ لهذا التكتُّل البشريّ وزنًا وقوّةً من خلال ربطه بمفهومَي "الأمّة" و"الجماعة"، وهما أقوى مفهومَين يؤصّلان للوجود السياسيّ والدّينيّ في التّراث.
ولأنّ العامّة وُضعت مقابِلًا دلاليًّا للخاصّة، ولأنّ التراث لم يقدّم لنا العامّة بكونها ذاتًا قائمة بذاتها بل بذل جهده الفكريّ والفقهيّ والكلاميّ والسّياسيّ لتحديد مكانة وتوصيفات وأخلاقيّات "الخاصّة"، كان لزامًا أن نمرّ بمواصفات "الخاصّة" كي نفهم معنى "العامّة" تطبيقيًّا. واتّضح أنّ "العامّة" هي الفئة المهمّشة فعليًّا، والتي تفتقد كلّ العلائق بالحكم أو بالعلم. وكانت دائرة "العموم" تتغيّرُ ضيقًا واتّساعًا وفق تغيُّر دائرة "الخصوصيّة" عبر الحقب التاريخيّة في أدبيّات السّياسة الشّرعيّة.
أمّا عند الحديث عن الحصانة والشّرعيّة، فيرتبط مفهوم "الجمهور" بمفهوم "الجماعة" والأمّة" المعصومَين، غير أنّ تفحُّص هذه المفاهيم وعلاقاتها الدّلاليّة يصل بنا إلى نتيجة تشوبها بعض الإشكاليّات. فالأمّة هي الرّؤية التأسيسيّة للجمهور والتي ينضوي تحتها كلّ أفراده وفقَ مشتركات عديدة أهمّها القبول بالسيادة السّياسيّة لحكم الإسلام عليهم جميعًا، سواء كان هؤلاء الأفراد مسلمين أم لا، بينما الجماعة هي جماعة المسلمين التي تصنع رؤيةً مجتمعيّة نواةً يتأسّسُ عليها مفهوم الأمّة. وقد تتّخذ بنيةُ المجتمع أيَّ شكل من أشكال الحكم في ظلّ العقل الجماعيّ الذي يُعَبِّرُ عنه "الإجماع". فالجمهور، إذًا، هو عين مادّة "العصمة" في كلّيّته، لأنّه أساس "الجماعة" التي هي أساس "الأمة"، فكيف يمكنه إنتاج الحكم عن طريق "الإجماع" إذا كان يُنظَرُ فيه إلى الجمهور –بما هو كيان كلّيّ –نظرةَ ازدراء وعدم أهليّة من جهة، وإذا كان، من جهة أخرى، لا عصمة له إلّا في كلّيّته؟ فكيف يمكن حلّ معضلة إنتاج الرّأي هذه؟
الكلمات المفتاحية: الجمهور، العامّة، مركز الخصوصيّة، الأمّة، الإجماع.
عن المؤلفة
شفيقة وعيل باحثة جزائريّة حاصلة على الدّكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها من الجامعة الأميركيّة في بيروت (AUB)، أنهت زمالة الأبحاث بالمجلس العربي للعلوم الاجتماعية في موضوع "صناعة الجمهور في التراث الإسلامي" (ACSS)، وهي حاليًّا زميلة أبحاث بالمعهد الألمانيّ للأبحاث الشّرقيّة في بيروت (OIB) في موضوع "مراجعة لمفهوم الجوار في التراث الإسلاميّ: مقاربة أنطولوجيّة". تسعى الباحثة نحو مراجعات فكريّة للمفاهيم والمناهج القرائيّة للتّراث العربيّ والإسلاميّ لغةً ومصادرَ ونظريّاتٍ وَفق مقارباتٍ متعدّدة التّخصّصات ومنفتحة على المنهج البحثيّ الحديث.
نشرتِ العديد من البحوث المحكَّمة وساهمتْ في عددٍ من المؤتمرات العلميّة والورشات البحثيّة العربيّة والعالميّة. كما شاركت في مهرجانات شعريّة كثيرة في العديد من العواصم العربيّة، وتحصّلت على جوائز أدبيّة. سيصدر لها قريبًا كتاب نقديّ بعنوان: الذي رأى: فلسفة الشّعث في التّراث العربيّ، وصدرت دواوين شعريّة.
* حقوق الطّبع والنّشر تعود إلى المؤلَّف/ة.