عقد المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، ضمن فعاليات مؤتمره الثالث حول الدولة والسيادة والفضاء الاجتماعي في المنطقة العربية، طاولة مستديرة بعنوان "السرديات النسوية في الواقع العربي بين الاستشراق الحديث والاستغراب المستحدث" في 11 آذار/مارس 2017 في بيروت.
أدارت الجلسة هانية شلقامي (الجامعة الأمريكية بالقاهرة)، وشاركت فيها هدى الصدة (جامعة القاهرة)، وحسن عبود (الجامعة الأميركية في بيروت)، وأميرة سلمي (جامعة بيرزيت).
تناولت الجلسة وضع مستقبل الفكر والفعل النسوي في العالم العربي في إيطار الانتقادات التي يتعرضان لها والتحديات الناتجة عن المستجدات السياسية، والسرديات النظرية والأكاديمية الحديثة.
ننشر في ما يلي مداخلة الدكتورة هدى الصدة. المداخلة متوفرة كملف PDF على هذا الرابط.
---------------------------------------------------------------------------------------
العنف ضد النساء في العالم العربي والسردية النسوية المناهضة للاستعمار: مراجعة
–هدى الصدة، أستاذة في الأدب المقارن في جامعة القاهرة، وناشطة في مجال حقوق المرأة
--------
كثر الجدل حول المنهج الحقوقي وفاعليته في السعي نحو تحقيق العدالة النوعية (gender justice). فكما بيّن باحثون وباحثات في مجالات مختلفة، أخص هنا بالتحديد، الباحثين والباحثات المتبنّين لخطاب مناهض للاستعمار والإمبريالية الغربية، فلقد تم استخدام، أو بالأحرى إساءة استخدام، المنهج الحقوقي في تبرير أجندة استعمارية لبلدان غربية تسمح لها بالتدخل في شؤون بلدان العالم الثالث. فعلى سبيل المثال، وفي حديث شهير للورا بوش، زوجة الرئيس الأمريكي جورج بوش، تم إضفاء "شرعية أخلاقية" على غزو الولايات المتحدة لأفغانستان بحجة إنقاذ النساء الأفغانيات وحماية حقوقهن من القمع الواقع عليهن من قبل مجتمعات ذكورية عنيفة. يتحول هنا "الخطاب الحقوقي" إلى سلاح يستخدم لتبرير الغزو والتدخل.
ومع اعتبار وجاهة وأهمية هذا الخطاب النقدي للمنهج الحقوقي، إلا أنني في هذه المداخلة سوف أشتبك مع الافتراضات النظرية لهذا النقد، خاصة حين يعمّم الخطاب ويتحول إلى المنظور السائد في التعامل مع المنهج الحقوقي في مقاربته لحقوق النساء، وخاصة أيضًا حين يصبح معيارًا للحكم على المدافعين والمدافعات عن حقوق النساء ووصمهم بالتبعية لأجندات غربية، أو اعتبارهم في أفضل الظروف منفذين غير واعين لمخططات تحاك لبلدانهم.
أختار على سبيل المثال لا الحصر النقد الموجه للمدافعات عن حقوق النساء اللواتي يركزن جهودهن على تسليط الضوء على العنف ضد النساء في المجال العام والخاص، بناء على الافتراضات التالية: أن أجندة مناهضة العنف ضد النساء هي أجندة غربية في الصميم؛ وأن الدعوة إلى مناهضة العنف ضد النساء في المجتمعات الإسلامية ترسّخ مفاهيم كولونيالية عن المجتمعات الإسلامية باعتبارها مجتمعات تتسم بالعنف وعدم احترام حقوق النساء وتروّج لسرديّة ثقافوية تفسّر الظواهر والأحداث وتتجاهل الصراعات السياسية والاجتماعية الموجودة في المجتمعات؛ وأن هذه الأجندة تتبناها منظمات دولية كبيرة حوّلتها إلى صناعة وفرص عمل وترقّي، بغض النظر عن حقوق النساء؛ وأن كل المجموعات التي تدافع عن حقوق النساء في العالم العربي التي تتلقى تمويلًا من المؤسسات الدولية تقوم بتنفيذ الأجندة الدولية دون مراعاة للواقع على الأرض وتقوم بقصد أو بدون قصد في المساهمة في تقديم صورة مغلوطة عن واقع النساء، لا بل المساهمة في تعزيز الخطاب الاستعماري الذي يوظف "قضية العنف ضد النساء" مبررًا للتدخل وفرض السيطرة.
أطرح رؤية مضادة وأزعم أنه من أهم مكاسب الحراك الثوري في مصر في عام 2011 هو تسليط الضوء على قضية العنف ضد النساء في المجال العام وكسر تابو العنف الجنسي، وذلك بفضل مجموعات المدافعات عن حقوق النساء اللواتي انتهزن فرصة فتح المجال السياسي أثناء الحراك الثوري ونجحن في جعل القضية قضية رأي عام تناقش في وسائل الإعلام.
بدايات الحملات المناهضة للعنف ضد النساء في المجال العام والخاص كانت في التسعينات حيث تبنتها مجموعة من المنظمات النسوية مثل النديم والمرأة الجديدة ومؤسسة قضايا المرأة المصرية. ولكن لم تحظ قضية العنف ضد النساء بالاهتمام على المستوى الرسمي والشعبي، لا بل كانت تابو أو موضوع محرّم سياسيًا واجتماعيًا. لماذا؟ كان تناول موضوع العنف ضد النساء يشوبه الكثير من اللغط يستمد قوته من أفكار مسبقة تحمّل الفتاة المعتدى عليها دائمًا مسؤولية حدث التحرس أو الاعتداء، وعوضًا عن مواجهة الجريمة ومعاقبة مرتكبها، يتمّ تحوير الموضوع إلى شيء آخر، يلوم الضحية لأنها لم تكن ترتدي ملابسًا ملائمة أو لأنها تواجدت في المكان الغلط أو الموعد الغلط. وبالطبع، كان موضوع العنف الأسري أكثر تعقيدًا، حيث تتحول أي محاولة لمناقشته إلى مناقشة دينية سلطوية، وتُستخدم حجج دينية منحازة ومغلوطة لتبرير العنف ضد النساء بدعوى ضرورة خضوعهن لسلطة الذكور في العائلة.
في عام 2011، برز دور النساء في المجال العام وانتشرت صور مشاركتهن في أحداث الثورة، وكان لهن نصيب من الاعتداءات ومظاهر العنف الموجّه ضد المتظاهرين. وبالتدريج، أصبح موضوع العنف ضدهن موضوعًا إعلاميًا يناقش في المحطات الفضائية والصحف بشكل مفتوح غير مسبوق. في النصف الثاني من عام 2012 وبدايات عام 2013، حدثت طفرة في الإبلاغ عن أحداث التحرش والإعتداءات ضد النساء في الميادين، وظهرت عدة مبادرات وحركات لمواجهة تلك الظاهرة. أنشئت "بصمة" في يونيو 2012، و"شفت تحرش" في أكتوبر 2012، و"قوة ضد التحرش" و"تحرير بودي جارد" في نوفمبر 2012. وتعاونت المبادرات الجديدة مع منظمات نسوية عاملة في نفس المجال، مثل "نظرة"، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية. ونجحت هذه المبادرات في تسليط الضوء على المشكلة وعلى ضرورة التصدي لها واتخاذ إجراءات حاسمة لردع المعتدين. بالإضافة إلى العمل على المستوى الإعلامي، قامت هذه المبادرات بتشكيل قوّة تدخل لإنقاذ النساء من الاعتداءات، خاصة أثناء التجمعات الكبيرة، ووفّرت تلك المجموعات الدعم النفسي والقانوني للناجيات من الاعتداءات. ونظمت أيضًا دروسًا للدفاع عن النفس للنساء. وقامت بتجميع شهادات للناجيات لوصف تجاربهن ومساعدتهن على التعامل مع الآثار النفسية المترتبة على التجربة القاسية. وأخيرًا ضغطت على الأحزاب والمجتمع المدني لكي يعترفوا بوجود مشكلة ولكى يتخذوا التدابير المناسبة لتجنب وقوع حوادث الإعتداء أثناء فعاليات الاحتجاج والحشد. ثم كان شهر يناير 2013 لحظة فاصلة في التعامل مع ملف العنف في الإعلام، إذ ظهرت بعض الناجيات في وسائل الإعلام المرئي لتسردن تجاربهن على الملأ. وكان لهذه الشهادات المدعومة بمجهودات الناشطات أثر بالغ على أسلوب تناول تلك القضية، إذ كسرت الناجيات كما النشاطات التابو وأصبح من الممكن تناول قضية العنف ضد النساء من منطلق أنها جريمة يرتكبها جاني يتحمل تبعاتها على الملأ.
أسرد حكاية التحول الذي حدث في الخطاب وفي المجال العام في تناول قضية العنف ضد النساء لأؤكد على حقيقة أن العمل الأهلي الحقوقي، خاصة عندما يتاح له الوصول للناس والإنتشار في مجال سياسي مفتوح نسبيًا، من شأنه تحقيق نقلات نوعية على مستوى الوعي ومن ثم التأثير على التشريعات.
كانت النتيجة المباشرة لكسر التابو إدراج فقرة في الدستور المصري عام 2014 تلزم الدولة بمناهضة كل أشكال العنف ضد المرأة. ثم في يونيو 2014، صدر قانون يجرّم التحرش وينص على عقوبات رادعة للمتحرشين. وفي عام 2016، صدر قانون يغلظ عقوبة ختان البنات. هذا على المستوى العملي والتغييرات التي حدثت على الأرض بفضل عمل النسويات لمناهضة العنف ضد النساء.
أشتبك مع السردية النسوية المناهضة للاستعمار أيضًا على المستوى النظري. وأشير إلى ما سمّاه إدوارد سعيد "سفر النظريات" وما يتبعه من تغيّر أو إحلال وتبديل للمفهوم عند احتكاكه ببيئة جديدة وتفاعله مع تحديات مختلفة.[1] أشير أيضًا إلى مقالة لجون سكوت عنوانها "ترددات نسوية"[2] تقول فيها أن انتقال الصوت من مكان إلى آخر يحدث ترددات تشكّل بالضرورة صوتًا جديدًا أو صوتًا مختلفًا. وتستخدم مفهوم الترددات لتقييم مسار النظرية النسوية في القرن العشرين، وتتصدّى للفكرة الشائعة عنها باعتبارها منتج غربي خالص، وذلك بتتبع وإبراز مساهمة الناقدة جوليا كريستيفا، التي ولدت وتلقت تعليمها في بلغاريا، وتأثرت بكتابات ميخائيل باختين، ثم أتت إلى فرنسا وأصبحت من مؤسسات النظرية النسوية الفرنسية.[3]
يترتب على فكرة سفر المفاهيم أو النظريات إعادة النظر في الارتباط المبالغ فيه بجذور مفهوم ما أو بمسار المفهوم في ثقافة معينة، أو كيفية استخدامه لأغراض محددة تاريخيًا وجغرافيًا، ثم تجاهل الاستخدامات أو التوظيفات المختلفة للمفهوم بعد انتقاله جغرافيًا أو زمنيًا، وتجاهل كيفية توظيفه في سياقات مختلفة. وبالرجوع إلى مثال العنف ضد النساء، فممّا لا شكّ فيه أنه تم توظيف هذه الفكرة لتبرير التدخلات الاستعمارية في لحظة زمنية معينة، وهناك وجاهة للسردية النسوية المناهضة للاستعمار في مقاومة السرديات الاستعمارية السائدة في دول الشمال، حيث تسود تصوّرات نمطية عن المجتمعات الإسلامية فتصبح السردية النسوية المناهضة للاستعمار في هذا السياق سردية مقاومة. ولكن يختلف الأمر جذريًا داخل المجتمعات الإسلامية، فالخطاب الحقوقي هنا محاصر ويمثّل المقاومة لسرديات سلطوية لا تحترم الحقوق. وعليه، يصبح الموقف المناهض للاستعمار المشروع في الغرب، فاقد للمصداقية والمشروعية في الجنوب ويفقد صفة المقاومة، لأنه في سياق مغاير، يدعم الخطابات السلطوية السائدة ويمدّها بأسلحة لتدمير حركة المقاومة الحقوقية الوحيدة والمحاصرة.
أنهي بأسئلة أطرحها على النقّاد والنشطاء على وجه سواء، وهي أسئلة قد تساعد على ضبط بوصلة الرؤية والموقف: من يستخدم الخطاب الحقوقي وما الهدف من استخدامه؟ ومن ينتقد الخطاب الحقوقي في العالم العربي ويتّهمه بالعمالة والتغريب؟ ومتى يستخدم الخطاب الحقوقي؟ وبأي هدف؟ فالنقد النسوي في أساسه هو نقد سياسي ينتبه إلى علاقات القوة غير المتوازنة في سياقات محددة. ومن ثم، فإن تحديد علاقات القوة في سياقات مختلفة هو جزء أصيل من النقد النسوي الملتزم سياسيًا والهادف إلى المشاركة في الحراك المجتمعي والسياسي.
*** إن الأفكار والآراء الواردة في هذا النص هي آراء المؤلف/ة ولا تعبّر بالضرورة عن وجهات نظر المجلس العربي للعلوم الإجتماعيّة، ولا تلزمه بها.
-------------------------------------
[1] Said, Edward. 1984. “Traveling Theory.” In The World, the Text and the Critic, 226-247. London: Faber and Faber.
[2] Scott, Joan W. 2002. “Feminist Reverberations.” Differences: A Journal of Feminist Cultural Studies 13, no. 3 (Fall): 1-23.
[3] Scott, Joan W. 2002. “Feminist Reverberations.” Differences: A Journal of Feminist Cultural Studies 13, no. 3 (Fall): 14-15.